قمة السعادة بالبكاء، وغاية الحزن بالضحك.. هذا هو المظهر المادي الحسي لطبيعة النفس البشرية.. عندما ترى من يبالغ في التواضع، فتيقَّنْ أنه بشع في الغرور، وبالمثل إذا رأيت أحدًا يغالي في احترامك؛ فهو إنما يسعى لمصلحة، فإذا تمكن، أو انقضت، أو زالت، فسيرد لك الصاع صاعات.
في حياتي العملية، قابلت هذه الأصناف من الجنس البشري، أحدهم كان يقسم، ويضغط على الحروف وهو يقسم، ويغلظ الأيمان، رغم أني المفترض مصدقه بدون كل هذه المواثيق المغلظة. لكنه يوقن في قرارة نفسه أنك لا تصدقه، فيحتاج إلى تأكيد وتأكيد التأكيد، سواء بالكلام، أو التمثيل.
وآخر كان يبدو في تواضعه أنه فاق الأنبياء، ولكني بلؤم أثنيت عليه، فرأيت انشكاحًا عجيبًا، ثم تبين لي غطرسة غروره، فأدركت أن كلاًّ منهما يجوِّد في بضاعته كالباعة الجائلين؛ ليُحلِّيها في نظر الزبون.
هكذا في كل سلوك إنساني، وأسوأ هؤلاء جميعًا ذلك الكائن، الذي يعطينا معلومة بأن الله سيحاسبه، وأن الله، وأن الله، وكل أفعاله تلطخه، ولكن لا يبصرها.
كنت أعرف شيطانًا بشريًّا يباهي بالأعمال السفلية التي في نفس نجاسته، ثم أفاجأ به يتكلم عن العمار بينه وبين الله، والخصوصية التي ميَّزه الله بها، فأتذكر قول الله المرعب “الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا“، “ويُشهِد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليهلك الحرث والنسل“.
وثالثٌ قلبه مستنقع آسِن، يفجُر في الخصام، وسواد قلبه نار تأكل فيه، وعذره أقبح من ذنبه، وهو أن هذا طبعه، بما يعني أنه لا أمل ولا رجاء فيه، فاجأني متفحم القلب وهو يحكي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أنصاري، بشَّر نبينا المصطفى بأنه من أهل الجنة، وكان السبب أنه عندما ينام يصفي قلبه من الأضغان أو أي شيء، ولولا يقيني بأن كلامي لن يجد موضعًا في نفسه إلا بطشًا وطبشًا، لقلت له: أنت أولَى بأن تعظ به نفسك.
القضية هي: أين موضعك؟ ومن أي زاوية تنظر إلى الأشياء؟ والكارثة أن أمثال هؤلاء يسوقهم حقد وكبر وعناد، والأكرث (صياغة التفضيل من كارثة) أنهم يجعلون أنفسهم الحق، وما عداهم باطل.
ولن تنعدل كفة الميزان إلا بإدراكنا أننا بشر، ولسنا أنبياء، بل إن الأنبياء المعصومين هم أكثر البشر إدانة لأنفسهم.
لذا أثنى الله عليهم بصفة عجيبة، قد لا يراها المنطق لائقة بهم، لكنها لحكمة من الله عز وجل جعلها الله في موضع المدح، وهي “أوَّابًا”. واللغة تقول: أوَّاب صيغة مبالغة من الفعل “آب”، أي رجع عن الذنب.
لو تأملنا في أول صراع بين الحق والباطل، لوجدنا أن آدم لما أخطأ، ندم وتاب وأناب وآب، بينما إبليس حقد وعاند وكابر، وأصرَّ على قلب الميزان، وأنه هو الحق، رغم أنه هو الذي بادر بالجريمة دون أي سبب من جهة آدم، وبهذا استمر في طريق اللا عودة، إلى الهلاك واللعنة والرجم، رغم أنه كان أعبد خلق الله وأعلمهم بالله، فهل كان غبيًّا؟ إنه الثالوث اللعين: الحقد والكبر والعناد، عندما يطمس العقل، ويسوق صاحبه، حتى يهوي به إلى قعر الهلاك.
ففي أي كفة من الاثنتين أنت تقف؟ الإجابة ستحدد لك وبمنتهى الدقة وزنك الحقيقي، لا نفختك الكذابة؛ حتى لا تأتي يوم العرض على الله، وأنت واقف منتشيًا بما فعلت من صلوات وحج وووو، فتجد نفسك تحت هذه الآية “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل، فجعلناه هباء منثورًا“، ووقتها فقط تدرك أنك ممن خصَّهم الحديث النبوي بقوله “المفلس من أمتي“؛ لتُلقَى في الهلاك، في طريق اللاعودة مع دليلك ومرشدك إبليس، الذي سرت على خطاه ونهجه.
مقالات أخرى للكاتب
ثقافة السوَّاقين ولعبة الريست في الصدام البشري
نيران الغل أشد على نفوسهم من نار جهنم (مقال)